الحكم
بن هشام
بويع
بعد وفاة أبيه بليلة واحدة يوم 8 من صفر سنة 180هـ، وكان أبوه هشام قد عهد إليه
بولاية العهد، دون أكبر أبنائه عبد الملك، وبدأ الحكم بمحاربة بعض أقربائه
الطامعين في الإمارة، فقد كان عماه سليمان وعبد الله ابني عبد الرحمن الداخل قد
نفيا في عهد أبيه بالمغرب، فأقام سليمان بطنجة بينما كان عبد الله يمضي وقته
متجولا في بلاد المغرب، فزار إبراهيم بن الأغلب بالقيروان، كما زار الإمام
عبدالوهاب بن رستم الإباضي في تاهرت، وهناك علم بموت أخيه هشام وتولية ابن أخيه
الحكم، فأسرع بالجواز إلى الأندلس، عله يسبق أخاه سليمان، فنزل بالثغر الأعلى، إذ
كان يعلم كراهية سكان هذا الثغر للأمير الجديد، ونزل بسرقسطة عند بهلول بن مرزوق
الثائر على الأمير الحكم في ناحية الثغر، ولكنه لم يجد من يؤيده لعزل الحكم وتوليه
مكانه، وباءت جهوده بالفشل، فرحل مع ولديه عبيد الله وعبد الملك لمقابلة شارلمان
في إكس لاشابل، وهناك قابله وحثه على مهاجمة الأندلس، أما سليمان، فقد دخل الأندلس
سنة 182 هـ (798 م)، أي في العام الثاني لولاية الحكم، واستطاع أن يجمع جيشا
ليهاجم به قرطبة، وفي شوال من السنة نفسها انهزم سليمان بعد معركة شديدة بينه وبين
ابن أخيه[1].
وكان
الحكم أميراً شديد الحزم، ماضي العزيمة، عظيم الصولة، حسن التدبير، وكان أفحل
أمراء بني أمية، وأشدهم إقداما ونجدة وصرامة وأنفة وأبهة وعزة، وكان يشبه أبي جعفر
المنصور في شدة البأس وتوطيد الدولة وقمع الأعداء، ومع ذلك كله فقد كان عادلا بين
رعيته، ومتخيراً لحكامه وعماله، مثاغرا في سبيل الله، واستطاع بفضل هذه الصفات
جميعاً أن يطفئ نيران الفتن في الأندلس، ويقضي على ثورتين كبيرتين كادتا تطيحان
بإمارته: الأولى هي ثورة المولدين بطليطلة التي حدثت عام 181 هـ (797 م)، وذلك
أنهم كانوا يستخفون بولاتهم ويميلون إلى الثورة على أمراء بني أمية، والانفصال عن
سلطان قرطبة، وعرف الحكم كيف يوقع بهم، إذ استقدم عمروس المولد من وشقة، واختصه
وقربه إليه، وولاه طليطلة حتى يطمئن إليه سكانها المولدون. وأخذ عمروس هذا يتظاهر
أمامهم بكراهيته للأمير، وبغضه له حتى أنسوا إليه وأمنوا جانب، فبنى قصبة بالقرب
من جسر طليطلة، وأقام فيها حفلا دعا إليه وجوه طليطلة وزعمائها وكبار رجالها،
فحضروا وأوهمهم أنهم إذا انتهوا من تناول الطعام والشراب، وانصرفوا من باب غير
الباب الذي دخلوا منه، ووقف السيافون على شفير حفرة بداخل القصبة، وأخذوا يتلقون
كل من دخل منهم فيضربون عنقه، حتى بلغ عدد القتلى خمسة آلاف وثلثمائة. فلانت بعد
ذلك شوكة أهل طليطلة طوال عهده وعهد ابنه من بعده.
ثورة
أهل الربض[2]
عندما
قامت دولة بني أمية في الأندلس بدأت قوية فتية متسعة بفضل مؤسسها صقر قريش عبد الرحمن
الداخل الذي اتبع سياسة حكيمة وكان داهية حازماً سريعاً في حركاته واستمر قرابة الخمس
والثلاثين سنة يشيد الدولة الأموية هناك حتى مات سنة 171هـ وخلفه ولده هشام الذي سار
على نهج أبيه مع زيادة في الورع ومراعاة أحكام الشرع وكان محباً للعلماء شديداً على
الأعداء بلغ الإسلام في عهده أوج قوته حتى أنه لم يعد هناك أي أسير مسلم بيد الأعداء
واستمر على ذلك حتى مات سنة 180هـ وخلفه ابنه الحكم الذي لم يكن على سيرة أبيه وجده
فقد كان الحكم صارماً حازماً قاسياً استكثر من شراء المماليك وخاصة الصقالبة وتشبه
الحكم بالجبابرة واتخذ الأستار والحجب .
لأن
الناس قد عاصروا عهدي عبد الرحمن وولده هشام وما كان لعيه من العدل والفضل فقد هالهم
ما كان عليه الحكم من التشبه بالظالمين خاصة أن الحكم قد تظاهر بشرب الخمر والإنهماك
في اللذات وكان قرطبة حاضرة الخلافة دار علم وبها فضلاء في العلم والورع فثار أهلها
على الحكم ورجموه بالحجارة عند خروجه للصلاة ولكنه امتنع بجنوده ثم سكن الأمر ثم اجتمع
أهل قرطبة وفقهاؤها وحضروا عند محمد بن القاسم المرواني وبايعوه وكان الحكم الذي عزلوه
لفسقه وتظاهره بالفجور ولكن محمد بن القاسم يطلع الحكم على الأمر فأخذ الحكم وجهاء
قرطبة وفقهاؤها وصلبهم جميعاً وكان تعدادهم اثنين وسبعين رجلاً وكان يوماً شنيعاً وتمكنت
عداوة الناس للحكم .
وقعة
الربض هي ثورة حدثت بقرطبة في 13 رمضان 202 هـ الموافق ل 25 مارس 818م قام بها أهل
قرطبة، خاصتاً سكان حي الربض، ضد الحكم بن هشام. وقعت ثلاث حوادث متتالية أدت لاشتعال
تلك الثورة، أولها زيادة الضرائب عليهم ثم قيام الحكم بقتل عشرة من رؤوس البلد وصلبهم
منكوسين ثم قيام مملوك له بقتل أحد أهل المدينة لأنه طالبه بثمن صقل سيفه فهاج أهل
قرطبة عند هذه الحادثة وكان أول من هاج منهم أهل منطقة الربض وكان معظم أهلها من الفقهاء.
أسباب
ثورة الربض[3]
تسبب
قتل الحكم بن هشام لجماعة من أعيان قرطبة كره أهلها له
وفي
عام 198 هـ، دبر مجموعة من فقهاء قرطبة منهم يحيى بن يحيى الليثي وعيسى بن ديناروطالوت
بن عبد الجبار المعافريل خلع الحكم بن هشام، لما راوه منه من قسوة والخروج على أحكام
الدين، وبذخ وشغف باللهو والشراب، وألبوا العامة ضده من على المنابر. رأى الفقهاء في
أموي آخر يدعى محمد بن القاسم المرواني بديلاً يصلح للحكم. خشى الرجل على نفسه عاقبة
فشل المؤامرة، فأبلغ الحكم الذي قبض فقبض على بعضهم وفر البعض، وكان ممن فر يحيى بن
يحيى وعيسى بن دينار. أمر الحكم بصلب اثنين وسبعين رجلاً منهم،مما أدخل البغضاء والرهبة
إلى قلوب العامة. ، وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب إلى أن بلغ الأمر بالمحتجين
أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان: الصلاة يا مخمور الصلاة وشافهه بعضهم بالقول
وصفقوا عليه بالأكف فشرع في تحصين قرطبة وعمارة أسوارها وحفر خنادقها وارتبط الخيل
على بابه واستكثر المماليك ورتب جمعًا لا يفارقون باب قصره بالسلاح فزاد ذلك في حقد
أهل قرطبة وتيقنوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم.
ثم
وضع عليهم ضريبة، وهي عشر الأطعمة كل سنة من غير حرص فكرهوا ذلك ثم عمد إلى عشرة من
رؤساء قادتهم فقتلهم وصلبهم فهاج لذلك أهل الربض وانضاف إلى ذلك أن مملوكًا له سلم
سيفًا إلى صقيل ليصقله فمطله فأخذ المملوك السيف فلم يزل يضرب الصقيل به إلى أن قتله
وذلك في رمضان من هذه السنة.
اشتعال الثورة
كان
أول من شهر السلاح أهل الربض واجتمع أهل الربض جميعهم بالسلاح واجتمع الجند والأمويون
والعبيد بالقصر وفرق الحكم الخيل والأسلحة وجعل أصحابه كتائب ووقع القتال بين الطائفتين
فغلبهم أهل الربض وأحاطوا بقصره فنزل الحكم من أعلى القصر ولبس سلاحه وركب وحرض الناس
فقاتلوا بين يديه قتالًا شديدًا. ثم أمر ابن عمه عبيد الله فثلم في السور ثلمة وخرج
منها ومعه قطعة من الجيش وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم ولم يعلموا بهم فأضرموا النار
في الربض وانهزم أهله وقتلوا مقتلة عظيمة وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور فأسروهم
فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم فقتلهم وصلبهم منكسين وأقام النهب والقتل والحريق
والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة أيام.
ثم
استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث ولم يكن عنده من يوازيه في قربه
فأشار عليه بالصفح عنهم والعفو وأشار غيره بالقتل فقبل قوله وأمر فنودي بالأمان على
أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتلناه وصلبناه فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيا
وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم وما خف من أموالهم
وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون ومن امتنع عليهم قتلوه.
نهاية
المدة المحددة[4]
لما
انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس وجمعهن إلى مكان وأمر بهدم
الربض القبلي. وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن شهام محبوسًا
في حبس الدم بقرطبة في رجليه قيد ثقيل فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس
أن يفرجوا له فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم وأطلقوه فخرج فقاتل قتالًا شديدًا
لم يكن في الجيش مثله فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن فانتهى خبره إلى الحكم فأطلقه
وأحسن إليه وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين.
ودي
بالامان على اهل الربض شريطة ان يرحل المشتركون في الثورة عن قرطبة مع اهلهم وعيالهم.
وقام الحكم بهدم الربض بأكمله وصيره على عظمه واصالة بنائه مزرعة. وتفرق اهل الربض
في جميع أنحاء الاندلس، ومنهم من جاز المضيق إلى شمال أفريقية، فسكن عدد منهم في مدينة
فاس. وسكن آخرون في مناطق أخرى. بينما استقل عدد كبير منهم البحر في مراكب اقلتهم إلى
الإسكندرية، حيث أقاموا فيها، غير أن والى مصر عبد الله بن طاهر أجبرهم على الرحيل،
فتوجهوا إلى جزيرة كريت وفتحوها سنة 212 هـ= 827م، وأسسوا بها دولة زاهرة، بقيت هناك
إلى أن استولى عليها البيزنطيون سنة (350 هـ= 961م).
قابل
الحكم هذه الثورة ببطش شديد، ندم عليه عند موته سنة 206 هـ ندما شديدا.
موقف
العلماء من ثورة الربض[5]
- رأى
الفقهاء أن من كان في مثل حاله لا يصلح أن يحكم الناس، ولا يجوز أن يكون مثله سلطان
المسلمين، وكان هذا رأي عالمين جليلين هما: (يحيى بن يحيى الليثي) ولد عام 152هـ وتوفي
234هـ، سمع الموطأ من الإمام مالك، قال عنه
ابن عبد البر: قدم يحيى بن يحيى الأندلس بعلم غزير فعادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن
دينار الفقيه عليه وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه، وكان فقيهاً حسن الرأي، ومن فتاواه:
أن عبد الرحمن بن حكم صاحب الأندلس، نظر إلى جارية له في رمضان فلم يملك نفسه أن واقعها،
ثم ندم وطلب الفقهاء، وسألهم عن توبته، فقال يحيى بن يحيى: صم شهرين متتابعين فسكت
العلماء، فلما خرجوا قالوا ليحيى: مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه يخير بين العتق
والصوم والإطعام؟ قال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة،
فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود، وكذلك كان رأي العلم الآخر.
- وهو
(طالوت المعافري) فدعا العالمان إلى عزل هذا الخليفة الذي لا يصلح للحكم، مما جعل الناس
ينتظرون فرصة مواتية للهياج والثورة.
ترحيل
الربضيين:
- وأمر
بعد ذلك بأمر عجيب هو ترحيل أهل الربض كلهم، أي حاكم يطرد شعباً كاملاً؟! نعم، قد فعل الحكم بن هشام ذلك! لذلك لُقب بالحكم
الربضي كما مرّ، فارتحل الربضيون مجبرين إلى فاس في المغرب ثم إلى الإسكندرية في مصر،
ومكثوا عشر سنوات في الإسكندرية، لكن أهلها ضجوا منهم فأمر والي الإسكندرية عبد الله
بن طاهر بإخراجهم منها أيضاً، فأين يذهبون؟ وأين يستقرون؟ ارتحلوا بما توفرت لهم من
السفن ومخروا عباب البحر الأبيض المتوسط، حتى مرّوا بجزيرة فيها حامية بيزنطية قليلة
هجموا عليها وفتحوها، وهي جزيرة كريت الحالية في بحر إيجة، وكان العرب يطلقون عليها
اسم (إقريطش)، أسسوا الدولة الربضية المسلمة، وكان قائد الربضين هو عمرو بن عيسى البلوطي،
استمرت هذه الدولة المسلمة مائة عام إلى أن استردها البيزنطيون منهم.
المراجع
البيان
المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب المؤلف أحمد بن محمد بن عذاري المراكشي
أبو العباس. دار الثقافة، بيروت 1980م
نفح
الطيب من غصن الأندلس الرطيب أحمد بن محمد المقري التلمساني 1388 - 1968 المجلد الأول والثالث. دار صادر، بيروت.
ابن
القوطية, أبو بكر محمد بن عمر (1989). تاريخ افتتاح الأندلس. دار الكتاب المصري، القاهرة
- دار الكتاب اللبناني، بيروت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق