المقدمة
الحمدُ
لله العزيز الوهَّاب، والصَّلاة والسَّلام على من مُعجزته الكتاب، وعلى من آزره
والتف حوله من الآل والأصحاب، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الجزاء
والحساب.
أمَّا
بعد:
فإنَّ
القرآن الكريم هو الكتاب الخالد، والمُعجزة التي تَمتاز على سائر المُعجزات
بأَبَديَّتها على مرِّ العُصُور، وتتابُع الأجيال.
وإنَّ
جوانبَ الإعجاز في القُرآن المَجيد لتجلُّ عن الحصر، ولسوف يظلُّ يقذف في وُجُوه
المُعاندين بهذا التَّحدي المُعجز: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾[1]؛
فإعجازُه في أساليبه وتراكيبه، ومَعانيه وتصويره، وحُججه وبَراهينه، وأخباره
وأحكامه وتشريعاته، وهدايته وإرشاده.
ثُمَّ
إنَّ وجوه الإعجاز في هذا الذِّكْر الحكيم لا تُحَدُّ ولا تنفد عَبْر الزمان، بل
إنَّها تتَّسع باتِّساع العُلُوم والمعارف: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ
مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾
الإعجاز التشريعي في القرآن
معنى
الإعجاز في اللغة:
العَجُز
بضَمِّ الجيم: مُؤخر الشَّيء، وجَمعُه: أعجاز، والعجز الضَّعف، وأعجزه الشيء: فاته،
وعَجَّزته تعجيزًا: ثبَّطته، ونسبته إلى العجز
والعجز:
أصلُه التَّأخُّر عن الشيء، وحُصُوله عند عَجُز الأمر، أيْ: مُؤخره، وسار في التعارف
اسمًا للقُصُور عن فعل الشَّيء، وهو ضد القدرة[2].
أعجزتُه
وعاجزتُه، جعلته عاجزًا، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
﴾[3]وقرئ
(مُعَجِّزِين)[4]
، فمعاجزين - قيل معناه -: ظالمين ومُقدرين أنَّهم يُعاجزوننا؛ لأنَّهم حسبوا أن لا
بَعْثَ، ولا نشور، فيكون ثوابٌ وعقابٌ؛ وهذا في المعنى كقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾[5]
ومعجزين:
ينسبون من تَبِعَ النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى العَجْز نحو جهلته وفسقته، وقيل معناه:
مُثبطين، أيْ: مُقنطين النَّاس من النَّبي صلَّى الله عليه وسلم كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ[6] ﴾
معنى التشريع في اللغة:
الشَّرع
في اللغة: مصدر شَرَعَ بالتخفيف، والتَّشريع مصدر شرَّع بالتشديد، والشَّريعة في أصْل
الاستعمال اللُّغوي: مَورد الماء الذي يقصد للشُّرب، ثُم استعملها العربُ في الطريقة
المستقيمة، وذلك من حيثُ إنَّ الماء سبيلُ الحياة والسلامة، ومثل ذلك أيضًا الطريقة
المستقيمة، التي تهدي النُّفوس فتحييها.
قال
الراغب: "الشَّرع: نَهجُ الطَّريق الواضح، يُقال: شرعت له طريقًا، والشَّرعُ مصدر،
ثُم جُعِل اسمًا للطَّريقِ النَّهْجِ، فقيل له: شَرَعَ، وشَرْع وشَرِيعة، واستعير ذلك
للطَّريقة الإلهيَّة"[7]
معنى الإعجاز التشريعي في القرآن:
هو
إثباتُ عَجْز البشر جميعًا عن الإتيان بِمثل ما جاء به القُرآن من تشريعاتٍ وأحكام،
تَتَعلَّق بالفرد والأُسْرة والمجتمع في كافَّة المجالات.
المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي في القرآن
وليس
المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي هو مُجرد إثبات الإعجاز، وإنَّما المُراد منه لازمه،
وهو إثْبات صِدْق النَّبي صلَّى الله عليه وسلم وبيان كون القُرآن من عند الله عَزَّ
وجل: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [8]
الشمول
إنَّه
من الأدلَّة الدَّامغة، والبراهين القاطعة على الإعجاز التَّشريعي في القرآن - اشتمالُ
القُرآن المجيد نفسه على المَقاصد الأساسيَّة، والقواعد الكُلِّية للشريعة الإلهيَّة،
التي تُنظِّم كلَّ شؤون الحياة، وفي الوقت نفسه تُحقِّقُ العَدْل التَّام بين الجميع،
بقطع النظر عن الانتماءات الدينية أو العرقية أو غيرها، وهذا بالقطع لا يدخلُ تَحت
استطاعة أحد من البشر كائنًا من كان.
ومِمَّا
يدُلُّ دلالة دامغة أيضًا على الإعجاز التشريعي في القرآن: أنَّ العرب كانوا أمَّة
أمِّية لم تكن لهم ثقافة، ولم يكونوا يعرفون إلاَّ التَّحاكم إلى العِرْق القبليِّ
وقتَ نُزُول القرآن المجيد على النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - فهذا ولا رَيب هو
الإعجاز ذاته.
ذلك
أنَّه من الأُمُور البدهيَّة عند عُلماء القانون والاجتماع، أنَّ آخر ما يُتوَّج به
تقدُّم أي أمة من الأمم هو تكامُل البيئة القانونيَّة والتشريعيَّة في حياتها.
إذًا
فظُهُور قانون مُتكامل في أمَّة من الأمم، هو الذِّروةُ العُليا لتقدمها الحضاري، وليس
العكس؛ إذ إنَّ الأمَّة التي لم تتقدم حضاريًّا، أو التي ما تزال تعيش في طَوْر البداوة،
ليس في حياتها من التعقيد الاجتماعي ما يُشعر بالحاجة إلى وَضْع قانون عام، ولكنَّها
تشعرُ بذلك كلَّما تقدمت حضاريًّا، وازداد تركيبُها الاجتماعي تعقيدًا.
من أجل صيانة المُجتمع وسلامته، يُقرِّر التشريع القرآني
الحفاظَ على الكليَّات الخمس وهي:
1-
النفس.
2-
العقل.
3-
العرض.
4-
الملكية.
5-
النظام العام.
ومن
أجل الحفاظ على هذه الكلِّيَّات الخمس، التي تتَّفق كلُّ المجتمعات على صيانتها والحفاظ
عليها، حذَّر القرآن الكريم من الاعتداء عليها، وَوَضَع ما يُعرف في الفقه الإسلامي
بالجنايات أو الحدود.
الحفاظ على النفس:
لقد
كرَّم القرآن الإنسان، وبيَّن أنه خليفة الله في الأرض، وحرَّم قتل الإنسان لنفسه؛
لأنَّها ليست ملكًا له، إنَّما هي ملك لله وحدَه؛ فقال: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾[9].
كما
شَرع القِصاص وجعله ظرفًا للحياة في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [10]﴾ وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ
مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطًَا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً
مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[11]
﴾.
الحفاظ على العقل:
ومن
أجل الحفاظ على العقل الذي هو مَناطُ التَّكليف في الإسلام، وأكبر نعمة أنْعَمَ الله
بها على الإنسان - حرَّم القرآن الكريم شُرْب الخمر؛ لقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ
مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[12] ﴾
الحفاظ على العرض:
ومن
أجل الحفاظ على العرض، شَرَع القرآن الكريم حدَّ الزِّنا في قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم
بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [13]﴾،
هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين، أن يجلد كلٌّ منهما مائة جلدة بخلاف الزَّاني
المحصن، أو الزَّانية المُحصنة، فقد دلَّت السُّنة الصحيحة على أنَّ الحدَّ لكل منهما
هو الرجم[14].
الحفاظ على الملكية:
ومن
أجل الحفاظ على الملكية شَرَع القرآن الكريم حدَّ السرقة في قوله سبحانه: ﴿ وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [15]؛ ذلك
أنَّ السَّرقة نزعة شريرة ربَّما تحمل صاحبها، أو تَجرُّه إلى ارتكاب جرائم شنعاء في
سبيل الاستيلاء على مال الغير، بدافع من خبث الطبع، أو فساد المنشأ، وسوء التَّربية.
الحفاظ على النظام العام:
ومن
أجل الحفاظ على النِّظام العام، وضَمَان أمْن المُجتمع واستقراره، شَرَعَ القرآن الكريم
حدَّ الحرابة في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[16]؛ والمُحاربُون
لله ورسولِه، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض بالكُفر والقتل، وأخْذِ الأموال،
وإخافة السبيل.
السعة والمرونة
إذا
كان التَّشريعُ القُرآني يَمتازُ بالشُّمول، وأعني به الشُّمول الزَّماني، والشمول
المكاني، والشمول الموضوعي، أيْ: إنَّه يشمل مَجالات الحياة كافَّة على اختلافها وتنوُّعها؛
فإنه - أيضًا - يَمتازُ بخاصية أخرى، هي السعة والمرونة التي تسع الجميع من الفُقهاء
والمُجتهدين.
موافقة الفطرة
يُخاطب
القُرآن الكريم الإنسان بجانبيه: جانب الرُّوح، وجانب المادة، ويُعطي لكلِّ جانب منهما
ما يُناسبُه ويُرضيه، والتشريع القرآني يُوافقُ الفِطرة الإنسانيَّة التي فطر الله
النَّاس عليها؛ ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[17] وقوله
تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا[18]
﴾
إعجاز الإيجاز في آيات الأحكام
وقد
جاءت آياتُ الأحكام غاية في الإيجاز البليغ، مع شُمُولها كلَّ جوانب الأحكام التي تتناولها؛
فهي مُوجزة وشاملة، والجمعُ بين الشُّمول والإيجاز لون من الإعجاز.
التشريع القرآني والتشريع الوضعي في الميزان
ليس
من شكٍّ في أنَّه لا تصلح المُقارنة أو المُوازنة، بين التَّشريع القُرآني وبين القَوانين
الوضعية؛ لأنَّ الذي يُوازن بينهما كأنَّما يُوازن بين الخالق والمخلوق، لكنَّنا نأخذ
مثالاً واحدًا على الأَثَر العملي في الواقع للتَّشريع القُرآني في مُشكلةٍ لا تزال
المجتمعات غيرُ المسلمة تُعاني منها إلى اليوم، هي مُشكلة الخمر.
فقد
عالج التَّشريع القرآني هذه المُشكلة على مراحل ثلاث، بطريقة حَسَمَتْها في النِّهاية:
1-
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ ﴾ [19]
2-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾[20]
3-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ
رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [21]﴾
أهم المراجع:
•
القرآن الكريم.
•
"إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، لأبي السُّعود، مطبعة محمد
علي صبيح وأولاده.
•
"الإتقان في علوم القرآن"، للسيوطي، دار الفكر، بيروت.
•
"البرهان في علوم القرآن"، للزركشي، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
•
"الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي، دار الكتاب العربي للطباعة.
•
"الظاهرة القرآنية"، مالك بن نبي، ترجمة د/ عبد الصَّبور شاهين، دار الفكر
طرابلس، لبنان.
•
"المعجزة والإعجاز في القرآن"، د/ سعد الدين صالح، دار المعارف.
•
"المفردات في غريب القرآن"، للراغب الأصفهاني، مطبعة مصطفى الحلبي.
[16] أخرجه البخاري في
كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السُّلطان، (12/87 - رقم الحديث:
6788)، فتح الباري.
0 التعليقات:
إرسال تعليق