بحث كامل عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز مراجع هامش وفهرس


المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة أخلص من الذهب الإبريز، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً شهادة يكون صاحبها في حرز حريز... أما بعد:
فإنا نتكلم عن سيرة عالم من علماء هذه الأمة وملك من ملوكها العظام.. إنه لا ينتمي لعصر الوحي فحسب، بل إنه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله إلى دنيا مائجة هائجة، مفتونة مضطربة، متلفعة بالظلم والقهر، متعفنة بالتحلل والترف، ثم نجح في محاولته نجاحاً يبهر الألباب، فهل تدهش وتذهل؛ لأنه بمفرده حاول تحقيق هذا المستحيل؟!.. أم تدهش وتذهل؛ لأنه بمفرده قد حقق هذا المستحيل فعلاً؟!.. ليس في عشرين سنة، ولا في عشرة أعوام، بل في عامين وخمسة شهور وبضعة أيام[1].
نقف اليوم في رِحاب عَلَمٍ من أعلام المسلمين، وشخصيَّة من الشخصيَّات العظيمة، مع الرجل الذي لم يكن قِمَّةً في الزُّهد فحسب، ولا قِمَّة في العبادة فحسب، ولا قِمَّة في الوَرَع فحسب، وإنما كان قِمَّة في ذلك كلِّه، فكانت حياته قِمَمًا شامخة في كلِّ ذلك، مع الرجل الذي أقبلتْ عليه الدنيا بخيَلِها ورجلها، فأعرض عنها؛ رغبةً في النعيم الْمُقيم في جوار ربِّ العالمين، مع الرجل الذي كانتْ حياته معجزة، الرجل الذي ملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلِئَت ظُلمًا وجورًا، إنه عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى.
أولاً: اسمه وكنيته ونسبه وولادته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد، أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص، القرشي الأُموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد، أشجُّ بني أمية.
وأمه:
هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه[2].
ولادته: ولد عمر بحلوان قرية بمصر و أبوه أمير عليها سنة إحدى وقيل ثلاث وستين[3].
ثانياً: نشأته حال صغره وتربيته:
كان عمر -رحمه الله- ابن والي مصر عبد العزيز، وكان يعيش في أسرة الملك والحكم، حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا الزائل، وكان -رحمه الله- يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة.. إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها من أبيه يجاوز أربعين ألف دينار.. وإنه ليتحرك مسافراً من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه.
وكان يلبس أبهى الثياب وأغلاها، ويضمخ نفسه بأبهج عطور دنياه، حتى إنه ليعبر طريقاً ما، فيعلم الناس أنه عبره، وكان -رحمه الله- يتأنق في كل شيء، حتى المشية التي انفرد بها وشغف الشباب بمحاكاتها وعرفت لفرط أناقتها واختيالها بـ"المشية العمرية".
ثم إنه -رحمه الله- مع هذا كله كان فيه نبوغ مبكر فلم تنسه هذه الدنيا وزخرفها الله تعالى والدار الآخرة، بل إنه -رحمه الله- كان فيه حب للعلم وأهله كما سيأتي.
لقد جمع القرآن وهو صغير،[4] تحدث هو عن نفسه وطفولته فقال: " لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي".. ورغب إلى والده أن يغادر مصر إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان -رحمه الله-.
ثم لا يكاد ينزل بها حتى يتصل بالشيوخ والعلماء والفقهاء، متجنباً أترابه ولِدَاته، وأقبل على العربية وآدابها وشعرها فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً.
ومما يذكر أن صالح بن كيسان -رحمه الله- كان يُلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري. فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة. وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره.
ومما يذكر من بكائه حال صغره وخوفه: أنه لما حج أبوه اجتاز به في المدينة، فسأل صالح عنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
وقد بكى يوماً وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
 وأما سبب تسميته بأشج بني أمية: فعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال: دخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى إصطبل أبيه فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد.[5]
ثالثاً: زواجه وأولاده:
لما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجه[6]


رابعاً: صفاته الخلْقية والخُلقية:
كان -رحمه الله- أسمر دقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة وكان قد شاب وخضب[7].
وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات[8].
خامساً: بشارات به:
كان عمر بن الخطاب يقول: "من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً"، أخرجه الترمذي في تاريخه. فصدق ظن أبيه فيه.
وأخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال: ليت شعري! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جوراً.
وأخرج عن ابن عمر قال: كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة وكانوا يرون أنه هو حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز[9].
سادساً: بعض مواقفه في عهد سليمان بن عبد الملك:
كان سليمان بن عبد الملك من أمثل الخلفاء، نشر عَلَم الجهاد، وجهّز مائة ألف برّاً وبحراً، فنازلوا القسطنطينية، واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة.
واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشاراً ووزيراً وقال له: إنا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره فما رأيت من مصلحة العامة فمر به، فليكتب.
وكان من ذلك عزل نواب الحجاج، وإخراج أهل السجون منها، وإطلاق الأسرى، وبذل الأعطية بالعراق، ورد الصلاة إلى ميقاتها الأول بعد أن كانوا يؤخرونها إلى آخر وقتها، مع أمور حسنة كان يسمعها من عمر بن عبد العزيز[10].
الولاية على المدينة
 تولّى عمر بن عبد العزيز الولاية على المدينةِ عام ٧٨هـ، حيث إنَّ الخليفة الوليد بن عبد الملك ولّاهُ الإمارة، ثمّ تم انضمام الطائِف إليها ليصبح عمر والياً على الحِجاز جميعها. كان عمر بن عبد العزيز وَرِعاً وعادلاً وحكيماً، وقد ساد العدل في فترة حُكمِه، ويعتبره المؤرِّخون الخليفة الخامِس من الخلفاء الراشدون.
 وفاته
 في قصة وفاة عمر بن عبد العزيز الكثيرَ من العِبر والدُّروس، حيث إنّ الراجِح أنَّه مرِض بعد أن وضع له غلام السّم في شرابِه بتحريضٍ من بني أميَّة، وقد أحسَّ به عمر فور أن شرِبه، ونادى عمر الغلام فيما بعد، وقال له: لم وضعت السم في شرابي؟؟، فرّد الغُلام مقابِل ألفَ دينارٍ والعِتق، فقال له عمر: هاتِ الألف دينار ووضعها في بيت مال المسلمين وأعتقه، وأخبره اذهب إلى حيث لا أحد يعرف. توفّي عمر بعد عشرين يوماً من المرض في بدير سمعان من أرض المعرة بالشام، يوم الجمعة من رجب عام ١٠١هـ.
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة ومواقف:
جاءته الخلافة دون أن يسعى لها وكان كارها لها إذ أوصى له بها سليمان بن عبد الملك بناء على مشورة من العالم الجليل "رجاء بن حيوة الكندي" الذي كان مقرباً من سليمان يأتمنه ويأخذ برأيه.
وحين آلت الخلافة إليه لم يسر على نهج سلفه سليمان، ولم يقبل على الدنيا واتخذ من سيرة جده عمر بن الخطاب مثلاً يحتذي به ويسير على هديه، فاعتمد على الفقهاء وقربهم، وجعل للقاضي منزلة ممتازة ومستقلة وكانت الدولة في رأيه لا تصلح إلا بأركانها الأربعة: الوالي، والقاضي، وصاحب بيت المال، والخليفة، وفي هذا يقول: "إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا".[11]
ويروى أنه عندما تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بدأ بأهل بيته فأخذ ما كان في أيديهم وسمى ذلك المظالم ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته -وكان يعزها ويكرمها- وسألوها أن تكلمه فيما اعتزم، فقالت: إن قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذت منه خير غيرك، قال: "منعتهم حقاً!، ولا أخذت منهم حقاً"، فقالت: إني رأيتهم يتكلمون وإني أخاف أن يهجوا عليك يوماً عصيباً، فقال: "كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره"، قال: ودعا بدينار وخبث ومجمرة فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمر تناوله بشيء فألقاه على الخبث، فنش، فقال: "أي عمة أما تأوين لابن أخيك من مثل هذا؟" فقامت فخرجت على قرابته، فقالت: تزوجون إلى آل عمر فإذا نزعوا الشبه جزعتم! اصبروا له[12].
ومن المواقف ما حدّث اللّيث بن سعد: أنه بلغه أن مسلمة بن عبد الملك لمّا رأى عمر بن عبد العزيز اشتدّ وجعه، وظنّ أنه ميّت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالةً لاشيء لهم، ولابدّ لهم ممّا لابدّ لهم منه، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أمّا ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حقّ غيرهم، وأمّا ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصّالحين؛ ادعهم لي، قال: فدعوتهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عيناه، فقال: بأبي فتيةً تركتهم عالةً، وإنّما هم أحد رجلين: إمّا رجل يتّقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإمّا رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قوّيته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير لن تلقوا أحداً من المسلمين ولا أهل الذّمّة إلاّ سيرى لكم حقاً. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم[13]
سياسة عمر بن عبدالعزيز المالية
أخذت سياسة عمر بن عبدالعزيز المالية مكانة بالغة الأهمية في فترة خلافته، إذ تشهد أيامه التي قضاها على رأس الخلافة أنه كان مديرا ماليا بامتياز، كيف لا، وقد تميز عهده برخاء اقتصادي، حتى صار أهل الزكاة لا يجدون من يأخذ زكاتهم، وذلك لعدم وجود من يستحقها، بسبب الرفاهية الاقتصادية المنقطعة النظير، وسنتناول في هذا المقام الإشادة بأهم الإجراءات المالية المتخذة في عهده، وأثرها على النواحي الاقتصادية للخلافة، لذلك فإن دراسة السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبدالعزيز تعد أمرا مهما، لأن عهده جاء بعد أن ظهرت عدة تجاوزات مالية واقتصادية، لم تكن موجودة زمن الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  والخلفاء الراشدين.
السياسة المالية
تمثل السياسة المالية أحد أهم الركائز التي تتحقق بها التنمية الاقتصادية، إذ تعتبر إحدى الوسائل المهمة لمحاربة مظاهر الفقر والتخلف، وتسعى نحو التقدم في شتى مجالات الحياة، وجدارا صلبا لمواجهة المشكلات الاقتصادية، من خلال محاربة التضخم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي بشكل عام، والاستقرار المالي بشكل خاص، بالإضافة إلى السعي لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، بمحاربة مظاهر الفقر والبطالة، وتحقيق العدالة في توزيع الدخول، والإقلال من الفجوات ما بين الفئات المختلفة للمجتمع، ناهيك عن الجانب البيئي الذي هو أساس الحياة البشرية.
وبالرغم من تطبيق السياسات المالية المختلفة في إطار الفكر الغربي، سواء أكان رأسماليا أو اشتراكيا، فإن هذه السياسات أثبتت فشلها لعدم، ملاءمتها لطبيعة وبيئة مختلف المجتمعات الإسلامية، مما دفعنا إلى الرجوع إلى الماضي، واستخلاص الدروس المثالية في ضوء سياسة مالية راشدة، انتهجها خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز، والتي استطاع من خلالها تحقيق اقتصاد مثالي، أعتبره مثالا خالدا للعدالة الاقتصادية، لم تشهد المعمورة مثله حتى الساعة.
أسس السياسة المالية لعمر بن عبدالعزيز
تتجلى أسس السياسة المالية لعمر بن عبدالعزيز من خلال النظر والتبصر في بعض خطبه المشهورة، والتي كانت تحمل في طياتها ملامح سياسية مالية راشدة، استلهمها مما سبقه في الحكم من الخلفاء الراشدين، وبالأخص من سيدنا عمر بن الخطاب، والدليل على ذلك طلبه من سالم بن عبدالله بن عمر أن يكتب له سيرة مفصلة لعمر ابن الخطاب ، حتى تكون له سندا وذخرا يقتدي به مستقبلا.
وحين توليه الإمارة في الدولة الإسلامية ألقى خطابه التالي: «أوصيكم بتقوى الله عزوجل، فإن تقوى الله خلف من كل سعي، وليس من تقوى الله عزوجل خلف. واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه – فيما بينه وبين آدم عليه السلام – أبا حيا، لمعرق له في الموت. وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها  " صلى الله عليه وسلم" ، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا».
وقد جاءته عمته ذات يوم وهو خليفة المسلمين في الأرض، تشكوه مساواته لهم مع بقية أفراد المجتمع، واسترداده للأموال والمخصصات المالية من المنح والعطايا التي كانت تصل إلى أهل بيت الخليفة وأقربائه، فرفض شكواها جملة وتفصيلا، وكان جوابه صريحا وواضحا، حيث قال لها: «يا عمة، اعلمي أن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  مات وترك الناس على نهر مورود، فولي ذلك النهر بعده رجل، فلم يستنقص منه شيئا حتى مات، ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر، فلم يستنقص منه شيئا حتى مات، ثم ولي ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقاني الله لأردنه إلى مجراه الأول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الأقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك، فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم» .
ومن خلال التمعن في أقواله، تتضح أهم المعالم التي أسس بموجبها سياسته المالية والتي كانت تقوم على ما يلي:
العدل المالي ورفع الظلم:
 من خلال رؤيته الثاقبة بوجود انتهاكات في تطبيق السياسة المالية لمن سبقوه من أمراء بني أمية ، من خلال قوله فيما سبق ذكره: «وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها  " صلى الله عليه وسلم" ، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم»، وهو ما دفعه إلى ترسيخ قيم الحق والعدل ودفع الظلم وجعلها أساسا لقيام سياسة مالية راشدة، فجميع الأهداف والوسائل التي اتبعها كانت تنسجم مع هذا الأساس، وإحقاق الحق ودفع الظلم، هو أصل من أصول الشريعة، ومقصد رئيسي من مقاصدها، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25). يقول ابن القيم: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة . ولقد كان عمر يرجع للحق إذا تبين له الخطأ، ويقول في ذلك: ما من طينة أهون علي فتا، ولا كتاب أيسر علي ردا من كتاب قضيت به، ثم أبصرت أن الحق في غيره ففتتها
تأكيده على تطبيق السياسة المالية المنتهجة أيام الرسول  " صلى الله عليه وسلم"
  والخلفاء الراشدين من بعده، وذلك من خلال قوله بأنه إن أبقاه الله ليردن النهر المورود الذي تركه الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  إلى سابق عهده ، وأيضا من خلال طلبه لسالم بن عبدالله بن عمر أن يكتب له سيرة عمر بن الخطاب، ومنه الوصول إلى العمل بنفس السياسة المالية التي انتهجها عمر بن الخطاب، والتي بدورها كانت تقوم على مجموعة من الأسس نلخصها فيما يلي:
مساواة الخليفة مع الرعية في الطعام والكساء. حيث حلف عمر  "رضي الله عنه"  بأن لا يذوق السمن واللبن حتى يلبي احتياجات الرعية من الطعام ، وجاءت ممارسة الفاروق  "رضي الله عنه"  لهذا المبدأ كدليل واضح على مبدأ العدل والمساواة في التسيير المالي لشؤون الخلافة الإسلامية.
إلحاق كل الأمور المالية
 من إيرادات ونفقات بشخصه إلى جانب أمور الخلافة، حيث قال: «من أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له واليا وقاسما».
بناء سياسة مالية تقوم على مبدأ حصول كل ذي حق على حقه من بيت المال، وذلك بمنعه جل أنواع العطايا، استنادا لقوله: «ولا أمنع أحدا حقه».
الآثار الاقتصادية المقتبسة نتيجة تطبيق السياسة المالية الراشدة في عهد عمر بن عبدالعزيز
باختصار يمكن القول بأن الأسس المالية المنتهجة من طرفه  "رضي الله عنه" ، كان لها أهمية كبيرة في تحقيق الأهداف الاقتصادية في ظرف وجيز لا يتعدى الثلاثين شهرا، ويمكن الإشارة إلى بعض الآثار الاقتصادية المحققة في إطار تطبيق السياسة المالية الراشدة:
1- القضاء نهائيا على جميع أوجه الفقر والحاجة حتى اكتفى الناس، ووصل الأمر بهم، أن كان الرجل يخرج زكاة ماله، فلا يجد أحدا فقيرا ليستلمها .
2- حل مشكلة مديونية الأفراد وكذا القضاء نهائيا على كل الآفات الاقتصادية للمجتمع، نتيجة الفائض المالي الذي شهدته ميزانية الدولة في عهده، لاندفاع أفراد المجتمع للعمل والإنتاج، بعد استقرار الأمن والتخلص من القوانين الجائرة المعيقة للاستثمار، فكثر عدد المؤدين للزكاة، وانخفاض عدد القابضين لها.
3- معالجة مشكلة العجز المالي التي لطالما عانت منها خزينة الخلافة خاصة في عهد عبدالملك بن مروان نتيجة التكاليف التي كانت تتحمل عبئها الخلافة في عهده، بتقديم الجزية لملك الروم، بسبب عدم قدرة الدولة في تلك الحقبة على مواجهته عسكريا، نتيجة نقص الأموال والعتاد العسكري .
4- اتباع سياسة محاربة الإسراف والتبذير والرشوة والفساد المالي من طرف شخصه كان لها الأثر الكبير في التقليل من تكاليف الإنتاج، وهذا بدوره أعطى للمشروعات الإنتاجية إمكانية الربحية والاستمرار والنمو والتطوير إلى الأفضل، من خلال زيادة المبيعات فزيادة الإنتاج ومقابلة الطلب المتزايد يحجم من عملية ارتفاع الأسعار.
5- إن تطبيق سياسة زكاة المال والتكافل الاجتماعي للخليفة الخامس ساعد على هطول الأموال واستثمارها في المشروعات الطيبة الحلال، كما أن إيتاء الزكاة عينا من أفضل السياسات المالية العمرية لتقليل عرض النقود وبذلك لا تخلق فرصا للتضخم الاقتصادي.
أن للسياسة المالية الراشدة والسليمة دورا كبيرا في القضاء على أهم المشاكل الاقتصادية إذا طبقت التطبيق الصحيح، ولعل في دراسة أسس السياسة المالية الراشدة في عهد عمر ابن عبدالعزيز الدليل الكافي والشافي على أنها تحمل في طياتها العلاج الناجح للمشاكل الاقتصادية التي يتخبط فيها المجتمع الإسلامي في الوقت المعاصر، وأسس السياسة المالية هي في الأصل تنبع من تعاليم الكتاب والسنة، بالإضافة إلى تلك التوجهات الاجتهادية التي لا تخرج عن الإطار الديني. ويمكن التأكيد على أن اتباع النهج المالي الراشد الذي طبقه عمر بن عبدالعزيز في عهده  "رضي الله عنه"  سيحقق الرفاهة المالية والاقتصادية والاجتماعية في وقتنا المعاصر، باعتبار أن العصر الحديث يمتاز بوفرة عناصر الإنتاج وتنوعها، بالإضافة إلى التطور العلمي الهائل والذي يجعل من تطبيق النهج المالي لعمر بن عبدالعزيز سهلا وممكنا، خاصة إذا ما توفرت الإرادة العمرية والهمة السياسية التي تساعد كثيرا على نجاح السياسة المالية الراشدة.
والملاحظ من خلال تعمقنا في دراسة المنهج الراشدي المالي لعمر ابن عبدالعزيز أن السياسة المالية والاقتصادية أخذت حظها الوافر من الاهتمام وأقصى درجات العناية، وذلك من خلال الإجراءات الصارمة التي عمل على تطبيقها بعد توليه الخلافة مباشرة.
دروس من حياة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:
من خلال ما سبق من سيرة هذا الخليفة الراشد نستفيد الآتي:
1- ثبات مدى تخلي عمر بن العزيز عن مظاهر الخلافة وزهده وأنه كان يحمل بين جوانبه نفساً تواقة للمعالي وكأنه يتمثل بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً   تعبت في مرادها الأجسام
2- القدوة: حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله.
3- ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع.. الخ.
4- وضح الرؤية في الخطوات الإصلاحية: حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الاختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، ونشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، واهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية،...الخ.
هذا قليل من كثير من حياة عمر بن عبد العزيز، حيث تحفل حياته بكثير من الدروس والعبر ولكن ربما لا يتسع المجال لذكرها.
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما وفق إليه من اصطفاهم من أحبابه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الخاتمة
عندما تقرأ قَصصَ المهتدين والعابدين تجدُ أنَّ نقطةَ التحوُّل في حياتهم كانت إمَّا بسبب موت قريبٍ، أو فجيعة في عزيز، أو كِبَر في السنِّ، أو مَرض زعزع كيانهم؛ حتى أفاقوا إلى رشدِهم.
لكن عمر بن عبدالعزيز كانت نقطةُ التحول في حياته يوم أن فُتِحَتْ زخارف الدنيا كلُّها بين يديه، يأخذ ما يشاء ولا يحاسبه أحدٌ إلا الله، هذه اللحظة التي تضعُف فيها النفوس كانت نقطة الاستفاقة في حياة عمر، فخاف أعظم ما يكون الخوف، وعدل أحسن ما يكون العدل، لقد خاف عمر ولم يكن خوفه إلا من الله، فلم يكن بينه وبين الله أحدٌ من الخَلْق يخشاه.
لذلك عندما وصل نبأُ موتِ الخليفة "عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - إلى إمبراطور الروم الذي كان خَصمًا عنيدًا لدولة الإسلام، بكى بكاءً شديدًا أذهل حاشيته، فسألوه عن ذلك، فأجابهم بكلمات تُعتبر من أصدق وأجمع ما قِيل في تأبين الخليفة أمير المؤمنين - رضي الله عنه - حيث قال: ماتَ والله رجلٌ عادلٌ، ليس لعدله مثيلٌ، وليس ينبغي أنْ يَعجبَ الناس لراهبٍ ترك الدنيا؛ ليعبدَ الله في صومعته، إنما العجبُ لهذا الذي أتته الدنيا حتى أناختْ عند قدمه، فأعرض عنها.


المراجع
§  أبوعبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي (ت 671ه)، الجامع لأحكام القرآن، دار الشعب، القاهرة، 1372ه، الطبعة الثانية، تحقيق: أحمد عبدالعليم البردوني.
§  أبوالفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، الدراية في تخريج أحاديث الهداية، دار المعرفة، بيروت، تحقيق: السيد عبدالله هاشم اليماني المدني.
§       البلاذري، فتوح البلدان، ج1، ص164. الأصبهاني، حلية الأولياء، ج3، ص176.
§         سيرة عمر بن عبد العزيز نقلاً عن المصدر: http://www.khayma.com.
§         البداية والنهاية لابن كثير: مكتبة المعارف - بيروت (9/ 192).
§         تاريخ الخلفاء للسيوطي (1/201).
§         سير أعلام النبلاء (5/117).
§    كتاب" عمر بن عبد العزيز"، معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة- علي محمد الصلابي ص(836).
§         تاريخ الأمم والملوك: للطبري، (4/70).
§         صفة الصفوة –لابن الجوزي: دار المعرفة - بيروت (2/123).


الفهرس
الموضوع
الصفحة
المقدمة
1
أولاً: اسمه وكنيته ونسبه وولادته:
2
وأمه:
2
ثانياً: نشأته حال صغره وتربيته:
2
ثالثاً: زواجه وأولاده:
3
رابعاً: صفاته الخلْقية والخُلقية:
4
خامساً: بشارات به:
4
سادساً: بعض مواقفه في عهد سليمان بن عبد الملك:
5
الولاية على المدينة
6
 وفاته
7
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة ومواقف:
7
سياسة عمر بن عبدالعزيز المالية
8
السياسة المالية
9
أسس السياسة المالية لعمر بن عبدالعزيز
10
العدل المالي ورفع الظلم:
10
دروس من حياة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:
12
الخاتمة
13
المراجع
14



[1] سيرة عمر بن عبد العزيز نقلاً عن المصدر: http://www.khayma.com.
[2] البداية والنهاية لابن كثير: مكتبة المعارف - بيروت (9/ 192).
[3] تاريخ الخلفاء للسيوطي (1/201).
[4] البداية والنهاية (9/192).
[5] المرجع السابق (9/192).
[6] سير أعلام النبلاء (5/117).
[7] البداية والنهاية (2/212).
[8] كتاب" عمر بن عبد العزيز"، معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة- علي محمد الصلابي ص(836).
[9] تاريخ الخلفاء (1/201).
[10] البداية والنهاية (9/178).
[11] تاريخ الأمم والملوك: للطبري، (4/70).
[12] صفة الصفوة –لابن الجوزي: دار المعرفة - بيروت (2/123).
[13] مختصر تاريخ دمشق (6/85).

شاركه على جوجل بلس

عن Unknown

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق